فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله: {واللائى يئِسْن مِن المحيض} الآية، ذكر الله تعالى في سورة البقرة عدة ذوات الأقراء والمتوفى عنها زوجها وذكر عدة سائر النسوة اللائي لم يذكرن هناك في هذه السورة، وروي أن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله قد عرفنا عدة التي تحيض، فما عدة التي لم تحض فنزل: {واللآئي يئِسْن مِن المحيض} وقوله: {إِنِ ارتبتم} أي إن أشكل عليكم حكمهن في عدة التي لا تحيض، فهذا حكمهن، وقيل: إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ الإياس وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين أهو دم حيض أو استحاضة {فعِدّتُهُنّ ثلاثة أشْهُرٍ} فلما نزل قوله تعالى: {فعِدّتُهُنّ ثلاثة أشْهُرٍ} قام رجل فقال: يا رسول الله فما عدة الصغيرة التي لم تحض؟ فنزل: {واللائي لمْ يحِضْن} أي هي بمنزلة الكبيرة التي قد يئست عدتها ثلاثة أشهر، فقام آخر وقال، وما عدة الحوامل يا رسول الله؟ فنزل: {وأولات الأحمال أجلُهُنّ أن يضعْن حمْلهُنّ} معناه أجلهن في انقطاع ما بينهن وبين الأزواج وضع الحمل، وهذا عام في كل حامل، وكان علي عليه السلام يعتبر أبعد الأجلين، ويقول: {والذين يُتوفّوْن مِنكُمْ} [البقرة: 234] لا يجوز أن يدخل في قوله: {وأولات الأحمال} وذلك لأن أولات الأحمال إنما هو في عدة الطلاق، وهي لا تنقض عدة الوفاة إذا كانت بالحيض، وعند ابن عباس عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أبعد الأجلين.
وأما ابن مسعود فقال: يجوز أن يكون قوله: {وأولات الأحمال} مبتدأ خطاب ليس بمعطوف على قوله تعالى: {واللائي يئِسْن} ولما كان مبتدأ يتناول العدد كلها، ومما يدل عليه خبر سبيعة بنت الحرث أنها وضعت حملها بعد وفاة زوجها بخمسة عشر يوما، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتزوج، فدل على إباحة النكاح قبل مضي أربعة أشهر وعشر، على أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل في جميع الأحوال.
وقال الحسن: إن وضعت أحد الولدين انقضت عدتها، واحتج بقوله تعالى: {أن يضعْن حمْلهُنّ} ولم يقل: أحمالهن، لكن لا يصح، وقرئ {أحمالهن}، وقوله: {ومن يتّقِ الله يجْعل لّهُ مِنْ أمْرِهِ يُسْرا} أي ييسر الله عليه في أمره، ويوفقه للعمل الصالح.
وقال عطاء: يسهل الله عليه أمر الدنيا والآخرة، وقوله: {ذلِك أمْرُ الله أنزلهُ إِليْكُمْ} يعني الذي ذكر من الأحكام أمر الله أنزله إليكم، ومن يتق الله بطاعته، ويعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يكفر عنه سيئاته من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة، ويعظم له في الآخرة أجرا، قاله ابن عباس.
فإن قيل قال تعالى: {أجلُهُنّ أن يضعْن حمْلهُنّ} ولم يقل: أن يلدن، نقول: الحمل اسم لجميع ما في بطنهن، ولو كان كما قاله، لكانت عدتهن بوضع بعض حملهن، وليس كذلك.
قوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ} وما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله: {ومن يتّقِ الله} [الطلاق: 4] كأنه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات، فقيل: {أسْكِنُوهُنّ} قال صاحب (الكشاف): (من) صلة، والمعنى أسكنوهن حيث سكنتم.
قال أبو عبيدة: {مّن وُجْدِكُمْ} أي وسعكم وسعتكم، وقال الفراء: على قدر طاقتكم، وقال أبو إسحاق: يقال وجدت في المال وجدا، أي صرت ذا مال، وقرئ بفتح الواو أيضا وبخفضها، والوجد الوسع والطاقة، وقوله: {ولا تُضارُّوهُنّ} نهي عن مضارتهن بالتضييق عليهن في السكنى والنفقة {وإِن كُنّ أولات حمْلٍ فأنفِقُواْ عليْهِنّ حتى يضعْن حمْلهُنّ} وهذا بيان حكم المطلقة البائنة، لأن الرجعية تستحق النفقة، وإن لم تكن حاملا، وإن كانت مطلقة ثلاثا أو مختلعة فلا نفقة لها إلا أن تكون حاملا، وعند مالك والشافعي، ليس للمبتوتة إلا السكنى ولا نفقة لها، وعن الحسن وحماد لا نفقة لها ولا سكنى، لحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها بت طلاقها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا سكنى لك ولا نفقة».
وقوله: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} يعني حق الرضاع وأجرته وقد مر، وهو دليل على أن اللبن وإن خلق لمكان الولد فهو ملك لها وإلا لم يكن لها أن تأخذ الأجر، وفيه دليل على أن حق الرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد وحق الإمساك والحضانة والكفالة على الزوجات وإلا لكان لها بعض الأجر دون الكل، وقوله تعالى: {وأْتمِرُواْ بيْنكُمْ بِمعْرُوفٍ} قال عطاء: يريد بفضل معروفا منك، وقال مقاتل: بتراضي الأب والأم، وقال المبرد: ليأمر بعضكم بعضا بالمعروف، والخطاب للأزواج من النساء والرجال، والمعروف هاهنا أن لا يقصر الرجل في حق المرأة ونفقتها ولا هي في حق الولد ورضاعه وقد مر تفسير الائتمار، وقيل: الائتمار التشاور في إرضاعه إذا تعاسرت هي، وقوله تعالى: {وإِن تعاسرْتُمْ} أي في الأجرة: {فستُرْضِعُ لهُ أخرى} غير الأم، ثم بين قدر الإنفاق بقوله: {لِيُنفِقْ ذُو سعةٍ مّن سعتِهِ} أمر أهل التوسعة أن يوسعوا على نسائهم المرضعات على قدر سعتهم ومن كان رزقه بمقدار القوت فلينفق على مقدار ذلك، ونظيره: {على الموسع قدرُهُ وعلى المقتر قدْرُهُ} [البقرة: 236] وقوله تعالى: {لا يُكلّفُ الله نفْسا إِلاّ ما ءاتاها} أي ما أعطاها من الرزق، قال السدي: لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني، وقوله: {سيجْعلُ الله بعْد عُسْرٍ يُسْرا} أي بعد ضيق وشدة غنى وسعة ورخاء وكان الغالب في ذلك الوقت الفقر والفاقة، فأعلمهم الله تعالى أن يجعل بعد عسر يسرا وهذا كالبشارة لهم بمطلوبهم.
ثم في الآية مباحث:
الأول: إذا قيل: (من) في قوله: {مِنْ حيْثُ سكنتُم} ما هي؟ نقول: هي التبعيضية أي بعض مكان سكناكم إن لم يكن (لكم) غير بيت واحد فأسكنوها في بعض جوانبه.
الثاني: ما موقع {مّن وُجْدِكُمْ}؟ نقول: عطف بيان لقوله: {مِنْ حيْثُ سكنتُم} وتفسير له، أي مكانا من مسكنكم على قدر طاقتكم.
الثالث: فإذا كانت كل مطلقة عندكم يجب لها النفقة، فما فائدة الشرط في قوله تعالى: {وإِن كُنّ أولات حمْلٍ فأنفِقُواْ عليْهِنّ} نقول: فائدته أن مدة الحمل ربما طال وقتها، فيظن أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار مدة الحمل، فن في ذلك الظن. اهـ.

.قال ابن عطية:

{واللائِي يئِسْن مِن الْمحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتبْتُمْ فعِدّتُهُنّ ثلاثةُ أشْهُرٍ}
{اللائي}: هو جمع ذات في ما حكى أبو عبيدة وهو ضعيف، والذي عليه الناس أنه: جمع التي، وقد يجيء جمعا للذي، واليائسات من المحيض على مراتب، فيائسة هو أول يأسها، فهذه ترفع إلى السنة، ويبقيها الاحتياط على حكم من ليست بيائسة، لأنّا لا ندري لعل الدم يعود، ويائسة قد انقطع عنها الدم لأنها طعنت في السن ثم طلقت، وقد مرت عادتها بانقطاع الدم، إلا أنها مما يخاف أن تحمل نادرا فهذه التي في الآية على أحد التأولين في قوله: {إن ارتبتم} وهو قول من يجعل الارتياب بأمر الحمل وهو الأظهر، ويائسة قد هرمت حتى تتيقن أنها لا تحمل، فهذه ليست في الآية، لأنها لا يرتاب بحملها، لكنها في حكم الأشهر الثلاثة إجماعا فيما علمت، وهي في الآية على تأويل من يرى قوله: {إن ارتبتم}، في حكم اليائسات، وذلك أنه روى إسماعيل بن أبي خالد أن قوما منهم أبي بن كعب وخلاد بن النعمان لما سمعوا قول الله عز وجل: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] قالوا يا رسول الله: فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزلت الآية، فقال قائل منهم: فما عدة الحامل؟ فنزلت: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}، وقد تقدم ذكر الخلاف في تأويل: {إن ارتبتم}، {وأولات} جمع ذات، وأكثر أهل العلم على أن هذه الآية تعم الحوامل المطلقات والمعتدات من الوفاة والحجة حديث سبيعة الأسلمية قالت: كنت تحت سعد بن خولة فتوفي في حجة الوداع، ووضعت حملها قبل أربعة أشهر، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «قد حللت» وأمرها أن تتزوج، وقال ابن مسعود: نزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى، يعني أن قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} نزلت بعد قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} [البقرة: 234]، وقال ابن عباس وعلي بن أبي طالب: إنما هذه في المطلقات، وأما في الوفاة فعدة الحامل آخر الأجلين إن وضعت قبل أربعة أشهر وعشر تمادت إلى آخرها، والقول الأول أشهر، وعليه الفقهاء، وقرأ الضحاك: {أحمالهن} على الجمع، وأمر الله تعالى بإسكان المطلقات ولا خلاف في ذلك في التي لم تبت. وأما المبتوتة، فمالك رحمه الله يرى لها السكنى لمكان حفظ النسب، ولا يرى لها نفقة، لأن النفقة بإزاء الاستمتاع، وهو قول الأوزاعي والشافعي وابن أبي ليلى وابن عبيد وابن المسيب والحسن وعطاء والشعبي وسليمان بن يسار، وقال أصحاب الرأي والثوري: لها السكنى والنفقة، وقال جماعة من العلماء: ليس لها السكنى ولا نفقة. والوجد: السعة في المال، وضم الواو وفتحها وكسرها، هي كلها بمعنى واحد، وقرأ الجمهور: {وُجدكم} بضم الواو بمعنى سعة الحال، وقرأ الأعرج فيما ذكر عصمة {وجدكم} بفتح الواو، وذكرها أبو عمرو عن الحسن وأبي حيوة، وقرأ الفياض بن غزوان ويعقوب: بكسر الواو وذكرها المهدوي عن الأعرج وعمرو بن ميمون، وأما الحامل فلا خلاف في وجوب سكناها ونفقتها بتت أو لم تبت لأنها مبينة في الآية، واختلفوا في نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها على قولين لعلماء الأمة، فمنعها قوم وأوجبها في التركة قوم، وكذلك النفقة على المرضع واجبة وهي الأجر مع الكسوة وسائر المؤن التي بسطها في كتب الفقه، وقوله تعالى: {وائتمروا بينكم بمعروف} أي ليأمر كل واحد صاحبه بخير، ولا شك أن من أمر بخير فهو أسرع إلى فعل ذلك الخير وليقبل كل واحد ما أمر به من المعروف، والقبول والامتثال هو الائتمار، وقال الكسائي: {ائتمروا} معناه: تشاوروا، ومنه قوله تعالى: {إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك} [القصص: 20]، ومنه قول امرئ القيس:
ويعدو على المرء ما يأتمر

وقوله تعالى: {وإن تعاسرتم} أي تشططت المرأة في الحد الذي يكون أجرة على الرضاع، فللزوج أن يسترضع أخرى بما فيه رفقه إلا أن لا يقبل المولود غير أمه فتجبر حينئذ على رضاعه بأجرة مثلها ومثل الزوج في حالهما وغناهما، ثم حض تعالى أهل الجدة على الإنفاق وأهل الإقتار على التوسط بقدر حاله. وهذا هو العدل بينهم لئلا تضيع هي ولا يكلف هو ما لا يطيق. واختلف العلماء في الذي يعجز عن نفقة امرأته، فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو هريرة وابن المسيب والحسن: يفرق بينهما، وقال أصحاب الرأي وعمر بن عبد العزيز وجماعة: لا يفرق بينهما، ثم رجى تعالى باليسر تسهيلا على النفوس وتطييبا لها، وقرأ الجمهور: {يعظم} بالياء، وقرأ الأعمش: {نعظم} بالنون واختلف عنه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {واللائي يئِسْن مِن المحيض مِن نِّسآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فعِدّتُهُنّ ثلاثةُ أشْهُرٍ} فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {واللائي يئِسْن مِن المحيض مِن نِّسآئِكُمْ} لما بين أمر الطلاق والرّجعة في التي تحيض، وكانوا قد عرفوا عِدّة ذوات الأقراء، عرفهم في هذه السورة عدّة التي لا ترى الدم.
وقال أبو عثمان عمر بن سالم: لما نزلت عدّة النساء في سورة (البقرة) في المطلقة والمتوفى عنها زوجها قال أبّي بن كعب: يا رسول الله، إن ناسا يقولون قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شيء: الصغار وذوات الحمل، فنزلت: {واللائي يئِسْن} الآية.
وقال مقاتل: لما ذكر قوله تعالى: {والمطلقات يتربّصْن بِأنْفُسِهِنّ ثلاثة قروء} قال خلاّد بن النعمان: يا رسول الله، فما عِدّة التي لم تحِض، وعِدّة التي انقطع حيْضُها، وعدّة الحبلى؟ فنزلت: {واللائي يئِسْن مِن المحيض مِن نِّسآئِكُمْ} يعني قعدن عن المحيض.
وقيل: إن معاذ بن جبل سأل عن عدّة الكبيرة التي يئست؛ فنزلت الآية. والله أعلم.
وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة لا تدري دم حيْض هو أو دم عِلة.
الثانية: قوله تعالى: {إِنِ ارتبتم} أي شككتم، وقيل تيقّنتم.
وهو من الأضداد؛ يكون شكّا ويقينا كالظنّ.
واختيار الطبري أن يكون المعنى: إن شككتم، فلم تدروا ما الحكم فيهنّ.
وقال الزجاج: إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها.
القشيريّ: وفي هذا نظر؛ لأنّا إذا شككنا هل بلغت سِن اليأس لم نقل عدتها ثلاثة أشهر.
والمعتبر في سن اليأس في قول: أقصى عادة امرأة في العالم، وفي قول: غالب نساء عشيرة المرأة.
وقال مجاهد: قوله: {إِنِ ارتبتم} للمخاطبين؛ يعني إن لم تعلموا كم عدّة اليائسة والتي لم تحض فالعِدّة هذه.
وقيل: المعنى إن ارتبتم أن الدم الذي يظهر منها من أجل كِبر أو من الحيض المعهود أو من الاستحاضة فالعدة ثلاثة أشهر.
وقال عكرمة وقتادة: من الرِّيبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض؛ تحيض في أوّل الشهر مرارا وفي الأشهر مرة.
وقيل: إنه متصل بأول السورة.
والمعنى: لا تُخرجوهن من بيُوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدّة.
وهو أصح ما قيل فيه.
الثالثة: المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ نفسها من رِيبتها، ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الريبة.
وقد قيل في المرتابة التي ترفعها حيضتها وهي لا تدري ما ترفعها: إنها تنتظر سنة من يوم طلقها زوجها؛ منها تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة.
فإن طلقها فحاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع عنها بغير يأس منها انتظرت تسعة أشهر، ثم ثلاثة من يوم طهرت من حيضتها ثم حلّت للأزواج.
وهذا قاله الشافعي بالعراق.
فعلى قياس هذا القول تقيم الحُرّة المتوفى عنها زوجها المستبرأة بعد التسعة أشهر أربعة أشهر وعشرا، والأمةُ شهرين وخمس ليال بعد التسعة الأشهر.
وروي عن الشافعي أيضا أن أقراءها على ما كانت حتى تبلغ سن اليائسات.
وهو قول النّخعِي والثّوري وغيرهما، وحكاه أبو عبيد عن أهل العراق.
فإن كانت المرأة شابة وهي:
المسألة الرابعة:
اسْتُؤْني بها هل هي حامل أم لا؛ فإن استبان حملها فإن أجلها وضْعه.
وإن لم يسْتبِن فقال مالك: عِدة التي ارتفع حيضها وهي شابة سنةٌ.
وبه قال أحمد وإسحاق ورووه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره.
وأهل العراق يروْن أن عدتها ثلاثُ حِيض بعد ما كانت حاضت مرة واحدة في عمرها، وإن مكثت عشرين سنة، إلا أن تبلغ من الكبر مبلغا تيأس فيه من الحيض فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثة أشهر.
قال الثعلبيّ: وهذا الأصح من مذهب الشافعي وعليه جمهور العلماء.
وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه.
قال الكِيا: وهو الحق؛ لأن الله تعالى جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر؛ والمرتابة ليست آيسة.
الخامسة: وأمّا من تأخّر حيْضها لمرض؛ فقال مالك وابن القاسم وعبد الله بن أصْبغ: تعتدّ تسعة أشهر ثم ثلاثة.
وقال أشهب: هي كالمرضع بعد الفطام بالحيض أو بالسّنة.
وقد طلّق حبّان بن مُنقِذ امرأته وهي تُرْضع؛ فمكثت سنة لا تحيض لأجل الرضاع، ثم مرِض حبّان فخاف أن ترثه فخاصمها إلى عثمان وعنده عليّ وزيد، فقالا: نرى أن ترِثه؛ لأنها ليست من القواعد ولا من الصغار؛ فمات حبّان فورِثته واعتدّت عِدة الوفاة.
السادسة: ولو تأخر الحيض لغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها، تسعة أشهر ثم ثلاثة؛ على ما ذكرناه.
فتحِلّ ما لم ترْتب بحمْل؛ فإن ارتابت بحمل أقامت أربعة أعوام، أو خمسة، أو سبعة؛ على اختلاف الروايات عن علمائنا.
ومشهورها خمسة أعوام؛ فإن تجاوزتها حلّت.
وقال أشهب: لا تحلّ أبدا حتى تنقطع عنها الرِّيبة.
قال ابن العربي: وهو الصحيح؛ لأنه إذا جاز أن يبقى الولد في بطنها خمسة أعوام جاز أن يبقى عشرة وأكثر من ذلك.
وقد رُوي عن مالك مثله.
السابعة: وأما التي جُهل حيضها بالاستحاضة ففيها ثلاثة أقوال: قال ابن المسيب: تعتدّ سنة.
وهو قول الليث.
قال الليث: عِدّة المطلّقة وعدّة المتوفى عنها زوجها إذا كانت مستحاضة سنةٌ.
وهو مشهور قول علمائنا؛ سواء علمت دم حيضها من دم استحاضتها، وميّزت ذلك أو لم تميّزه، عدّتها في ذلك كلّه عند مالك في تحصيل مذهبه سنة؛ منها تسعة أشهر استبراء وثلاثة عدّة.
وقال الشافعي في أحد أقواله: عدّتها ثلاثة أشهر.
وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين من القرويّين.
ابن العربيّ: وهو الصحيح عندي.
وقال أبو عمر: المستحاضة إذا كان دمها ينفصل فعلِمت إقبال حيضتها أو إدبارها اعتدّت ثلاثة قُرُوء.
وهذا أصحّ في النظر، وأثبت في القياس والأثر.
قوله تعالى: {واللاتي لمْ يحِضْن} يعني الصغيرة فعدّتهن ثلاثة أشهر؛ فأضمر الخبر.
وإنما كانت عدّتها بالأشهر لعدم الأقراء فيها عادة، والأحكام إنما أجراها الله تعالى على العادات؛ فهي تعتدّ بالأشهر.
فإذا رأت الدم في زمن احتماله عند النساء انتقلت إلى الدم لوجود الأصل، وإذا وجد الأصل لم يبق للبدل حكم؛ كما أن المُسِنّة إذا اعتدّت بالدم ثم ارتفع عادت إلى الأشهر.
وهذا إجماع.
قوله تعالى: {وأُوْلاتُ الأحمال أجلُهُنّ أن يضعْن حمْلهُنّ} فيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قوله تعالى: {وأُوْلاتُ الأحمال أجلُهُنّ} وضْعُ الحمل، وإن كان ظاهرا في المطلقة لأنه عليها عُطف وإليها رجع عقب الكلام؛ فإنه في المتوفى عنها زوجها كذلك؛ لعموم الآية وحديث سُبيْعة.
وقد مضى في (البقرة) القول فيه مستوفى.
المسألة الثانية:
إذا وضعت المرأة ما وضعت من علقة أو مُضْغة حلّت.
وقال الشافعيّ وأبو حنيفة: لا تحلُّ إلا بما يكون ولدا.
وقد مضى القول فيه في سورة (البقرة) وسورة (الرعد) والحمد لله.
قوله تعالى: {ومن يتّقِ الله يجْعل لّهُ مِنْ أمْرِهِ يُسْرا} قال الضحاك؛ أي من يتّقه في طلاق السُّنة يجعل له من أمره يسرا في الرجعة.
مقاتل: {ومن يتّق الله} في اجتناب معاصيه {يجعل له من أمره يُسْرا} في توفيقه للطاعة.
{ذلِك أمْرُ الله} أي الذي ذُكر من الأحكام أمْرُ الله أنزله إليكم وبيّنه لكم.
{ومن يتّقِ الله} أي يعمل بطاعته.
{يُكفِّرْ عنْهُ سيِّئاتِهِ} من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة.
{ويُعْظِمْ لهُ أجْرا} أي في الآخرة.
{أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ولا تُضارُّوهُنّ لِتُضيِّقُوا عليْهِنّ}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} قال أشهب عن مالك: يخرج عنها إذا طلّقها ويتركها في المنزل؛ لقوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ}.
فلو كان معها ما قال أسكنوهن.
وقال ابن نافع: قال مالك في قول الله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنتُم}.
يعني المطلقات اللاتي بِنّ من أزواجهن فلا رجْعة لهم عليهن وليست حاملا، فلها السُّكْنى ولا نفقة لها ولا كسوة، لأنها بائن منه، لا يتوارثان ولا رجعة له عليها.
وإن كانت حاملا فلها النفقة والكسوة والمسكن حتى تنقضي عِدّتها.
فأما من لم تبِنْ فإنهن نساؤهم يتوارثون، ولا يخرجن إلا أن يأذن لهن أزواجهن ما كُنّ في عِدتهن، ولم يؤمروا بالسكنى لهن لأن ذلك لازم لأزواجهن مع نفقتهن وكسوتهن، حوامل كن أو غير حوامل.
وإنما أمر الله بالسكنى للاّئى بِنّ من أزواجهن مع نفقتهن، قال الله تعالى: {وإِن كُنّ أُوْلاتِ حمْلٍ فأنفِقُواْ عليْهِنّ حتى يضعْن حمْلهُنّ} فجعل عز وجل للحوامل اللائي قد بِنّ من أزواجهن السكنى والنفقة.
قال ابن العربي: وبسْطُ ذلك وتحقيقه أن الله سبحانه لما ذكر السّكْنى أطلقها لكل مطلّقة، فلما ذكر النفقة قيّدها بالحمل، فدّل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها.
وهي مسألة عظيمة قد مهدنا سُبُلها قرآنا وسُنّة ومعنى في مسائل الخلاف.
وهذا مأخذها من القرآن.
قلت: اختلف العلماء في المطلقة ثلاثا على ثلاثة أقوال، فمذهب مالك والشافعيّ: أن لها السكنى ولا نفقة لها.
ومذهب أبي حنيفة وأصحابه: أن لها السكنى والنفقة.
ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثوْر: أن لا نفقة لها ولا سكنى، على: حديث فاطمة بنت قيس، قالت: «دخلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي أخو زوجي فقلت: إن زوجي طلقني وإن هذا يزعم أن ليس لي سكنى ولا نفقة؟ قال: بل لكِ السُّكْنى ولكِ النفقة.
قال: إن زوجها طلّقها ثلاثا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما السكنى والنفقة على من له عليها الرجعة.
فلما قدمتُ الكوفة طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك، وإن أصحاب عبد الله يقولون: إن لها السكنى والنفقة»
خرّجه الدّارقُطْنِيّ.
ولفظ مسلم عنها: «أنه طلّقها زوجها في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان أنفق عليها نفقة دُونٍ، فلما رأت ذلك قالت: والله لأُعْلِمنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان لي نفقة أخذت الذي يصلحني وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ شيئا.
قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا نفقة لكِ ولا سكْنى»
وذكر الدارقُطْنيّ عن الأسود قال: قال عمر لما بلغه قول فاطمة بنت قيس: لا نجيز في المسلمين قول امرأة.
وكان يجعل للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة.
وعن الشعبي قال: لقِيني الأسود بن يزيد فقال.
يا شعْبي، اتق الله وارجع عن حديث فاطمة بنت قيس؛ فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة.
قلت: لا أرجع عن شيء حدثتني به فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: ما أحسن هذا.
وقد قال قتادة وابن أبي ليْلى: لا سكنى إلاّ للرجعية؛ لقوله تعالى: {لا تدْرِى لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا}، وقوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ} راجع إلى ما قبله، وهي المطلقة الرجعية.
والله أعلم.
ولأن السكنى تابعةٌ للنفقة وجاريةٌ مجراها؛ فلما لم تجِب للمبْتُوتة نفقة لم يجب لها سكنى.
وحجة أبي حنيفة أن للمبتوتة النفقة قوله تعالى: {ولا تُضآرُّوهُنّ لِتُضيِّقُواْ عليْهِنّ} وترك النفقة من أكبر الأضرار.
وفي إنكار عمر على فاطمة قولها ما يبيّن هذا، ولأنها معتدّة تستحق السكنى عن طلاق فكانت لها النفقة كالرجعية، ولأنها محبوسة عليه لحقّه فاستحقت النفقة كالزوجة.
ودليل مالك قوله تعالى: {وإِن كُنّ أُوْلاتِ حمْلٍ} الآية.
على ما تقدم بيانه.
وقد قيل: إن الله تعالى ذكر المطلقة الرجعية وأحكامها أوّل الآية إلى قوله: {ذوي عدْلٍ مِّنكُمْ} ثم ذكر بعد ذلك حُكْما يعم المطلقات كلّهن من تعديد الأشهر وغير ذلك.
وهو عام في كل مطلقة؛ فرجع ما بعد ذلك من الأحكام إلى كل مطلقة.
الثانية: قوله تعالى: {مِّن وُجْدِكُمْ} أي من سعتكم؛ يقال وجدْتُ في المال أجِدُ وُجْدا (ووجْدا ووجْدا) وجِدة.
والوِجْد: الغنى والمقدرة.
وقراءة العامة بضم الواو.
وقرأ الأعرج والزهري بفتحها، ويعقوب بكسرها.
وكلها لغات فيها.
الثالثة: قوله تعالى: {ولا تُضآرُّوهُنّ لِتُضيِّقُواْ عليْهِنّ} قال مجاهد: في المسكن مُقاتل: في النفقة؛ وهو قول أبي حنيفة.
وعن أبي الضحى: هو أن يطلقها فإذا بقي يومان من عدّتها راجعها ثم طلّقها.
الرابعة: قوله تعالى: {وإِن كُنّ أُوْلاتِ حمْلٍ فأنفِقُواْ عليْهِنّ حتى يضعْن حمْلهُنّ} لا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلّقة ثلاثا أو أقلّ منهن حتى تضع حملها.
فأما الحامل الْمتوفى عنها زوجها فقال عليّ وابن عمر وابن مسعود وشُريح والنّخعيّ والشّعْبي وحمّاد وابن أبي ليْلى وسُفيان والضّحاك: يُنفق عليها من جميع المال حتى تضع.
وقال ابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله ومالك والشافعيّ وأبو حنيفة وأصحابهم: لا ينفق عليها إلا من نصيبها.
وقد مضى في (البقرة) بيانه.
قوله تعالى: {فإِنْ أرْضعْن لكُمْ} فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فإِنْ أرْضعْن لكُمْ} يعني المطلقات أولادكم منهن فعلى الآباء أن يعطوهنّ أجرة إرضاعهن.
وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهنّ ما لم يبِن.
ويجوز عند الشافعي.
وتقدّم القول في الرضاع في (البقرة) و(النساء) مستوفى ولله الحمد.
الثانية: قوله تعالى: {وأْتمِرُواْ بيْنكُمْ بِمعْرُوفٍ} هو خطاب للأزواج والزوجات؛ أي ولْيقْبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل.
والجميل منها إرضاع الولد من غير أجرة.
والجميل منه توفير الأجرة عليها للإرضاع.
وقيل: ائتمروا في رضاع الولد فيما بينكم بمعروف حتى لا يلحق الولد إضرار.
وقيل: هو الكسوة والدِّثار.
وقيل: معناه لا تضارّ والدة بولدها ولا مولود له بولده.
الثالثة: قوله تعالى: {وإِن تعاسرْتُمْ} أي في أجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الأمّ رضاعها وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها؛ وليستأجر مرضعة غير أمّه.
وقيل: معناه وإن تضايقتم وتشاكستم فلسيترضع لولده غيرها؛ وهو خبر في معنى الأمر.
وقال الضحاك: إن أبت الأمّ أن ترضع استأجر لولدها أخرى، فإن لم يقبل أجبرت أمّه على الرضاع بالأجر.
وقد اختلف العلماء فيمن يجب عليه رضاع الولد على ثلاثة أقوال: قال علماؤنا: رضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية؛ إلا لشرفها وموضعها فعلى الأب رضاعه يومئذ في ماله.
الثاني قال أبو حنيفة: لا يجب على الأمّ بحال.
الثالث يجب عليها في كل حال.
الرابعة: فإن طلقها فلا يلزمها رضاعه إلا أن يكون غير قابل ثدْي غيرها فيلزمها حينئذ الإرضاع.
فإن اختلفا في الأجر فإن دعت إلى أجر مثلها وامتنع الأب إلا تبرُّعا فالأمّ أوْلى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعا.
وإن دعا الأب إلى أجر المثل وامتنعت الأم لتطلب شططا فالأب أوْلى به.
فإن أعسر الأب بأجرتها أخذت جبرا برضاع ولدها.
{لِيُنْفِقْ ذُو سعةٍ مِنْ سعتِهِ ومنْ قُدِر عليْهِ رِزْقُهُ فلْيُنْفِقْ مما آتاهُ الله لا يُكلِّفُ الله نفْسا إِلّا ما آتاها سيجْعلُ الله بعْد عُسْرٍ يُسْرا (7)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {لِيُنفِقْ} أي لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وُسعه حتى يوسّع عليهما إذا كان مُوسّعا عليه.
ومن كان فقيرا فعلى قدر ذلك.
فتقدّر النفقة بحسب الحالة من المنفِق والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى حياة العادة؛ فينظر المفتي إلى قدر حاجة المنفق عليه ثم ينظر إلى حالة المنفِق، فإن احتملت الحالة أمضاها عليه، فإن اقتصرت حالته على حاجة المنفق عليه ردّها إلى قدر احتماله.
وقال الإمام الشافعيّ رضي الله عنه وأصحابه: النفقة مقدّرة محدّدة، ولا اجتهاد لحاكم ولا لِمُفْتٍ فيها.
وتقديرها هو بحال الزوج وحده من يُسْره وعُسْره، ولا يعتبر بحالها وكفايتها.
قالوا: فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس.
فإن كان الزوج مُوسِرا لزمه مُدّان، وإن كان متوسطا فمُدّ ونصف، وإن كان معسِرا فمُدّ.
واستدلوا بقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سعةٍ مِّن سعتِهِ} الآية.
فجعل الاعتبار بالزوج في اليُسْر والعُسْر دونها؛ ولأن الاعتبار بكفايتها لا سبيل إلى علمه للحاكم ولا لغيره؛ فيؤدّي إلى الخصومة؛ لأن الزوج يدّعي أنها تلتمس فوق كفايتها، وهي تزعم أن الذي تطلب تطلبه قدر كفايتها؛ فجعلناها مقدّرة قطعا للخصومة.
والأصل في هذا عندهم قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سعةٍ مِّن سعتِهِ} كما ذكرنا، وقوله: {على الموسع قدرُهُ وعلى المقتر قدْرُهُ} [البقرة: 236].
والجواب أن هذه الآية لا تعطي أكثر من فرق بين نفقة الغنيّ والفقير، وإنها تختلف بُعْسر الزوج ويُسْره.
وهذا مُسلّم.
فأما إنه لا اعتبار بحال الزوجة على وجهه فليس فيه، وقد قال الله تعالى: {وعلى المولود لهُ رِزْقُهُنّ وكِسْوتُهُنّ بالمعروف} [البقرة: 233] وذلك يقتضي تعلّق المعروف في حقهما؛ لأنه لم يخص في ذلك واحدا منهما.
وليس من المعروف أن يكون كفاية الغنيّة مثل نفقة الفقيرة: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند: «خُذِي ما يكْفيِك وولدكِ بالمعروف» فأحالها على الكفاية حين علم السّعة من حال أبي سفيان الواجب عليه بطلبها، ولم يقل لها لا اعتبار بكفايتك وأن الواجب لك شيء مقدّر، بل ردّها إلى ما يعلمه من قدر كفايتها ولم يعلقه بمقدار معلوم.
ثم ما ذكروه من التحديد يحتاج إلى توقيف؛ والآية لاتقتضيه.
الثانية: روي أن عمر رضي الله عنه فرض للمنفوس مائة درهم، وفرض له عثمان خمسين درهما.
ابن العربيّ: واحتمل أن يكون هذا الاختلاف بحسب اختلاف السنين أو بحسب حال القدر في التسعير لثمن القوت والملبس، وقد روى محمد بن هلال المُزنيّ قال: حدّثني أبي وجدّتي أنها كانت ترِد على عثمان ففقدها فقال لأهله: ما لي لا أرى فلانة؟ فقالت امرأته: يا أمير المؤمنين، ولدت الليلة؛ فبعث إليها بخمسين درهما وشُقيْقة سُنْبُلانيّة.
ثم قال: هذا عطاء ابنك وهذه كسوته، فإذا مرّت له سنة رفعناه إلى مائة.
وقد أُتي عليّ رضي الله عنه بمنبوذ ففرض له مائة.
قال ابن العربيّ: هذا الفرض قبل الفِطام مما اختلف فيه العلماء؛ فمنهم من رآه مستحبا لأنه داخل في حكم الآية، ومنهم من رآه واجبا لما تجدّد من حاجته وعرض من مؤونته؛ وبه أقول.
ولكن يختلف قدره بحاله عند الولادة وبحاله عند الفطام.
وقد روى سفيان بن وهب أن عمر أخذ المُدّ بيدٍ والقِسْط بيد فقال: إني فرضت لكل نفس مسلمة في كل شهر مُدّيْ حِنْطة وقِسْطيْ خلٍّ وقِسْطيْ زيت.
زاد غيره: وقال إنا قد أجْريْنا لكم أعطياتكم وأرزاقكم في كل شهر، فمن انتقصها فعل الله به كذا وكذا؛ فدعا عليه.
قال أبو الدّرْداء: كم سُنّة راشدة مهْديّة قد سنّها عمر رضي الله عنه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم! والمُدّ والقسْط كيلان شامِيّان في الطعام والإدام؛ وقد دُرِسا بعرف آخر.
فأما المُدّ فدُرِس إلى الكيْلجة.
وأما القِسْط فدُرِس إلى الكيل، ولكن التقدير فيه عندنا رُبعان في الطعام وثُمنان في الإدام.
وأما الكسوة فبقدر العادة قميصٌ وسراويل وجُبّة في الشتاء وكساء وإزار وحصير.
وهذا الأصل، ويتزيد بحسب الأحوال والعادة.
الثالثة: هذه الآية أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد دون الأم؛ خلافا لمحمد بن الموّاز يقول: إنها على الأبوين على قدر الميراث.
ابن العربيّ: ولعلّ محمدا أراد أنها على الأم عند عدم الأب.
وفي البخاريّ: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «تقول لك المرأة أنفق عليّ وإلا فطلقني ويقول لك العبد أنفق عليّ واستعملني ويقول لك ولدك أنفق عليّ إلى من تكِلُنِي» فقد تعاضد القرآن والسُّنّة وتواردا في شِرْعة واحدة.
الرابعة: قوله تعالى: {لا يُكلِّفُ الله نفْسا إِلاّ مآ آتاها} أي لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغنيّ.
{سيجْعلُ الله بعْد عُسْرٍ يُسْرا} أي بعد الضيق غِنى، وبعد الشدّة سعة. اهـ.